إن
المتتبع المنصف للروايات التي جاء بها رواة الشيعة في الكتب التي ألفوها
بين القرن الرابع والخامس الهجري يصل إلى نتيجة محزنة جداً وهي أن الجهد
الذي بذله بعض رواة الشيعة في الإساءة إلى الإسلام لهو جهد يعادل السموات
والأرض في ثقله، ويخيل إليَّ أن أولئك لم يقصدوا من رواياتهم ترسيخ عقائد
الشيعة في القلوب بل قصدوا منها الإساءة إلى الإسلام وكل ما يتصل
بالإسلام، وعندما نمعن النظر في الروايات التي رووها عن أئمة الشيعة وفي
الأبحاث التي نشروها في الخلافة وفي تجريحهم لكل صحابة الرسول﴿
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ ونسفهم لعصر الرسالة والمجتمع الإسلامي
الذي كان يعيش في ظل النبوة لكي يثبتوا أحقية " علي " وأهل بيته بالخلافة
ويثبتوا علو شأنهم وعظيم مقامهم نرى أن هؤلاء الرواة – سامحهم الله –
أساءوا للإمام " علي " وأهل بيته بصورة هي أشد وأنكى مما قالوه ورووه في
الخلفاء والصحابة، وهكذا تشويه كل شيء يتصل بالرسول الكريم﴿ صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم ﴾ وبعصره مبتدئاً بأهل بيته ومنتهياً بالصحابة، وهنا
تأخذني القشعريرة وتمتلكني الحيرة وأتساءل: أليس هؤلاء الرواة من الشيعة
ومحدثيها قد أخذوا على عاتقهم هدم الإسلام تحت غطاء حبهم لأهل البيت؟ ماذا
تعني هذه الروايات التي نسبها هؤلاء إلى أئمة الشيعة وهم صناديد الإسلام
وفقهاء أهل البيت؟ وماذا تعني هذه الروايات التي نسبوها إلى أئمة الشيعة
وهي تتناقض مع سيرة الإمام " علي " وأولاده الأئمة وكثير منها يتناقض مع
العقل المدرك والفطرة السليمة؟ وإنني لا أشك أن بعضاً من رواة الشيعة
ومحدثيها ومن ورائهم بعض فقهاء الشيعة قد أمعنوا في هذا التطاول على أئمة
الشيعة وفي وضع روايات عنهم عندما أعلن رسمياً بحدوث الغيبة الكبرى، ونقل
عن الإمام المعدي قوله
من ادّعى رؤيتي بعد اليوم فكذبوه ).
وهكذا
سدت الأبواب كلها للاتصال بالإمام وللسؤال عن صحة الروايات التي نسبت إليه
وإلى أجداده الأئمة الطاهرين، وهكذا خلا الجو للمتربصين بالتشيع والإسلام
معاً فصفَّروا ونقَّروا وكتبت أقلامهم ما شاءت وما ارتأت.
ولكي
أكون واضحاً أود أن أضع النقاط على الحروف وأبدأ بالخلافة لكي نرى أن ما
رووه في حق الخلفاء وصحابة الرسول﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ يصطدم
اصطداماً كبيراً بسيرة الأمام " علي " وأهل بيته، ونرى بعد ذلك كيف أن
هؤلاء الرواة وبعض علماء الشيعة لتعزيز آرائهم ولتفنيد مواقف الإمام
الصريحة وأهل بيته التي تفند ما نسبوه غليهم ناقضوا مواقف الإمام " علي "
والأئمة من بعده بصورة ملتوية ظاهرها مليح وباطنها قبيح لكي يثبتوا آراءهم
حسب أهوائهم.
موقف الإمام " علي " من الخلافة
قلنا
قبل قليل أن التشيع كان يعني حب الإمام " علي " وأهل بيته وإعطاءه حق
الأولوية في الخلافة وإعطاء أولاده مثل هذا الحق من بعده ولا أعتقد أن
هناك أحد لا يعرف الأسباب الدافعة إلى هذا الاعتقاد، فالإمام " علي "
ترعرع ونشأ في بيت الرسول الكريم﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ وهو
يحدثنا عن تلك النشأة بقوله
وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه
وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى
صدره ويكنفني إلى فراشه ويُمسني جسده ويشُمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم
يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل )
ويستمر
الإمام في بيان منزلته عند رسول الله﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾
ويقول
ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع
بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا
ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان
حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟
فقال هذا الشيطان أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست
بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير ).
ولنستمع
إليه مرة أخرى وهو يقول
ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن رأسه
لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله صلى
الله عليه وآله والملائكة أعواني فضجت الدار والأفنية .... ملأٌ يهبط
وملأٌ يعرج وما فارقت سمعي هيمنة فهم يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه فمن
ذا أحق به مني حياً وميتاً فانفذوا على بصائركم ).
وهذا هو الإمام "
علي " يصف نفسه وموقعه من رسول الله﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم﴾ مرة
أخرى في كتاب بعثة واليه في البصرة " عثمان بن حنيف " جاء فيها
وأنا من
رسول الله كالصنو والذراع من العضد ) وبعد كل هذا فالإمام هو زوج "
الزهراء " وأبو الحسنين وبطل المسلمين ومن أعظم بناة الإسلام ودافع عن
الرسول الكريم ورسالته بقلبه ولسانه ودمه وعرقه وهو بعد غلام لم يبلغ
الحلم وقد شاء الله أن تكون شهادته حيث كان مولده فقد ولد " علي " في بيت
الله واستشهد في بيت الله، وقد تكتمل الصورة المشرقة " لعلي " وجهاده
وموقعه من قلب الإسلام عندما نعلم علم اليقين وحسب الأحاديث المتواترة
الصحيحة التي رواها رواة الشيعة والسنة على السواء في حب الرسول الكريم﴿
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ " لعلي " وتقديره إياه، فالنبي زوجَّه "
فاطمة الزهراء " بأمر من السماء ورفض أولئك الذين تقدموا لخطبتها بقوله
إنما أنتظر بها القضاء ) وعندما نزل القضاء تم ذلك الزواج الميمون بين "
علي " و " فاطمة ".
وفي
غزوة الخندق يصف النبي الكريم " علياً " بجملتين تضاهيان كل الأحاديث التي
رويت عنه في فضائل " علي " حقاً عن كل حرف من تلك الكلمات الخالدات
المشرقات يعتبر وساماً نبوياً ينصبه محمد﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
﴾على صدر " علي بن أبي طالب " إنه وسام أعطى الجهاد والإخلاص والتفاني
والإيمان بالله موقعه السرمدي في حياة الدهر وتخليد العظماء، والجملتان
صدرتا عن الرسول في خلال ساعة أو أكثر منها بقليل وذلك عندما ذهب " علي "
ليلتقي بعدو الإسلام وبطل المشركين " عمرو بن ود " والذي كان يبارز لوحده
جماعات ورجالاً قال﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: اللهم برز الإسلام
كله إلى الشرك كله ﴾ وعندما وقع " عمرو " صريعاً بسيف " علي " قال﴿صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم: ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ﴾.
إن
المتتبع لحياة الرسول الكريم والإمام يصل إلى نتيجة أكيدة وهي: أن الوشائج
التي كانت تربط " محمداً "﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ بـِ " علي "
كانت أقوى بكثير من وشائج القربى إنها صلات روحية مترابطة متماسكة أصلها
في السماء وفرعها في قلبي الرسول﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ وابن
عمه ولذلك لا نستغرب أبداً عندما نلمس في " علي " نفحات من نفحات النبي
فهذا هو رسول الله﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ يدافع عن رسالته
بكلمته الخالدة التي قالها للمشركين
والله لو وضعتم الشمس في يميني
والقمر عن يساري لأترك هذا الأمر ما فعلت ) وهذا هو " علي " يدافع عن
إيمانه بالله ويقول
فوالله لو أعطيت الأقاليم السبعة وما تحت أفلاكها أن
أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت). وبعد كل ما ذكرناه ورويناه
فقد يكون من الطبيعي أن يرى " علي " نفسه أولى بخلافة محمد﴿ صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم ﴾ من غيره، ومن الطبيعي أيضاً أن تعتقد فئة من الناس
بذلك وتتحمس لها أشد التحمس وتجد الفكرة لها مؤيدين وأنصاراً كما أن من
الطبيعي أيضاً أن نقرأ في قلب محمد﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾
ولسانه ما يدل على استخلاف " علي " بعد وفاته.
الإمام " علي " يؤكد شرعية بيعة الخلفاء
ولكن
هل يعني كل هذا - وهذا بيت القصيد وحجر الأساس في كل ما يتعلق بالإمامة
وشؤونها المتفرعة منها – أن هناك نصاً إلهياً بتعيين " علي " لخلافة
الرسول﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ أم أنها رغبة شخصية من رغبات
رسول الله الخاصة؟ الإمام " علي " كان يقول: لا نص عليه من السماء وصحابة
" علي " والذين عاصروه كانوا يعتقدون بذلك أيضاً وقد استمر هذا الاعتقاد
حتى عصر الغيبة الكبرى وهو العصر الذي حدث فيه التغيير في عقائد الشيعة
وقلبها رأساً على عقب.
ومرة
أخرى نقول: عن هناك فرقاً كبيراً بين أن يعتقد الإمام " علي " والذين
كانوا معه انه أولى بخلافة الرسول الكريم﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
﴾ من غيره ولكن المسلمين اختاروا غيره وبين أن يعتقد أن الخلافة حقه
الإلهي ولكنها اغتصبت منه، والآن فلنستمع إلى الإمام " علي " وهو يحدثنا
عن هذا الأمر بكل وضوح وصراحة ويؤكد شرعية انتخاب الخلفاء وعدم وجود نص
سماوي في أمر الخلافة
إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر
وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد
.... وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً
كان ذلك لله رضىً، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج
منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين).
وقبل
أن أتحدث عن موقف الإمام " علي " بالنسبة للخلفاء الذين سبقوه وقبل أن
نسهب في هذا الأمر ونستشهد بأقوال أخرى للإمام حيث أن لهذا الموقف أهميته
القصوى في كشف الحقيقة وإنارة الواقع لا بد من التفصيل حول رغبات النبي
الشخصية وذلك الجانب السماوي الذي كان يصدع به بأمر من الله وبوحي منه.
الفصل بين الأوامر الإلهية ورغبات النبي الشخصية
إن
فصل هذين الجانبين في الشخصية المحمدية﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾
يساهم مساهمة كبيرة في إعطاء صورة واضحة عن الجانب الإلهي والشخصي في رسول
الله﴿صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ وإذا علمنا أن النبي الكريم كان
يحاول جاهداً التفريق بين الجانب الإلهي في أقواله وما يصدر عنه من أقوال
وأعمال لا صلة لها بالسماء لعرفنا عظمة النبي وعظمة نفسه الكريمة، بالقرآن
الكريم عندما يتحدث عن النبي﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ بهذه
الآيات البينات﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى﴾
النجم الآيات 3- 5 ، لا شك أنه يقصد بذلك أنه﴿ صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم ﴾ عندما يقرأ القرآن ويبلغ المسلمين بالآيات الإلهية وبالأحكام
المنزلة عليهم إنما ينطق بالوحي وبكلام الله المنزل على قلبه وهذا هو شرط
الإيمان بالإسلام وبرسالة محمد﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ وبالقرآن
المنزل عليه، ولكن القرآن الكريم حتى يبين الفرق الأساسي بين ما هو رغبة
من رغبات النبي الخاصة وما هو أمر إلهي قد حسم الموقف بصورة واضحة وصريحة
في آيات العتاب وفي آيات النهي عن أمور كان النبي﴿ صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم ﴾ يرغب الإتيان بها ولنقرأ معاً هذه الآيات﴿ يا أيها الرسول بلغ
ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
.....﴾ 67 المائدة، ﴿ واذكر ربك إذا نسيت﴾24 الكهف، ﴿ سنقرئك فلا تنسى إلا
ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى....﴾6-7 الأعلى، ﴿ ولا يحزنك الذين
يسارعون في الكفر .......﴾176 آل عمران، ﴿ ولا تحزن عليهم واخفض جناحك
للمؤمنين ....﴾88 الحجر، ﴿ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في
الأرض .....﴾67 الأنفال، ﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين
صدقوا وتعلم الكاذبين ....﴾43 التوبة، ﴿ وما كان للنبي والذين آمنوا أن
يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب
الجحيم ....﴾113 التوبة، ﴿ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك
عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق
أن تخشاه .....﴾37 الأحزاب﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي
مرضاة أزواجك والله غفور رحيم﴾1 التحريم، ﴿ عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما
يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما
عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها
تذكرة...... ﴾1-11 عبس، ﴿ قل غنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم
إله واحد .....﴾110 الكهف، ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون .....﴾30 الزمر.
إن
من يتدبر في هذه الآيات البينات سيعلم علم اليقين أن القرآن الكريم يؤكد
تأكيداً قاطعاً على أن رسول الله﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ لم يكن
ملكاً ولا عنصراً سماوياً ولا موجوداً خارج نطاق هذا الكون وطبائعه إنما
هم بشر مثل سائر البشر، كان يأكل وينام ويصح ويمرض ويحب ويكره ويتزوج
وينجب الأطفال حسب الناموس الطبيعي للكون فيسري عليه من التفاعل الطبيعي
كل ما هو يسري على سائر أفراد البشر، ومن الواضح جداً أن التأكيد على هذا
الجانب في رسول الله﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ إنما كان ليثبت
للناس أن كل ما يصدر من النبي لا يعني أنه وحي أو كلام إلهي أو أمر سماوي،
أما الناحية الإلهية في وجود النبي وهي الاتصال بالمبدأ الأعلى فكان
يؤكدها شخص النبي﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ عندما كان ينزل عليه
الوحي ويطلب من كتبة الوحي أن يدونوا قول الله تعالى، ويبدوا واضحاً
للمتتبع لأخلاق الرسول الكريم﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ كما قلنا
قبل قليل إنه كان يسعى جاهداً لتأكيد الفصل بين الجانب السماوي والأرضي في
شخصه وهذه كانت من أكبر السمات الدالة على قوة النبي النفسية وصدقه في
الرسالة وإخلاصه لربه وعظمة شخصيته وهي خصال لا تضاهيها خصال أي رسول من
رسل السماء وأي عظيم من عظماء الأرض، فهذا الدور البارز العظيم الذي كان
يؤديه ليظهر بالمظهر الذي خصه به ربه وبالصفات التي وصفه بها إلهه ( فهو
بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) ولكنه بشير ونذير أرسله الله
للعالمين، فعندما كانت تنزل عليه آيات الثناء كان يقرؤها من موقع العبد
المطيع فلم ير النبي في نفسه انتقاصاً عندما تلا على المسلمين آيات العتاب
التي نزلت عليه كما لم يظهر عليه الخيلاء والتكبر عندما تلا آيات الثناء
التي أنزلها الله على قلبه، وهكذا كانت آيات العتاب والتحذير تعطي للرسول﴿
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ قوة لا تقل عن قوة آيات المدح والثناء
فلا غرو انه﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ تلقى من ربه كلمات لم تنزل
قط على من سبقوه من أولي العزم من الرسل﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾4 القلم،
ولم يقتصر دور الرسول البارز في فصل موقعه السماوي من البشري إلى هذا الحد
فحسب بل تجاوزه إلى أبعد ما يمكن للمرء أن يتصوره فعندما هابه رجل من
الأعراب التقى به قال له﴿ هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ﴾
وهذه العظمة الروحية في نكران الذات تتجاوز آفاق الأرض والسماء وتتجلى في
أعظم مظاهرها عندما كسفت الشمس في يوم وفاة ابنه " إبراهيم " فقال الناس
انكسفت الشمس لوفاة ابن رسول الله﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ وسمع
الرسول﴿ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴾ ما قاله القوم فصعد المنبر وخاطب
المسلمين بقوله:﴿ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد
وإنما ما ت إبراهيم بقضاء وقدر من الله﴾ وهكذا كان النبي﴿ صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم ﴾ يدفع عن نفسه مظاهر القدسية وهالاتها ليثبت عبوديته لله
وإنه بشر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرراً﴿ قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً
....﴾49 يونس ويزيد النبي في العبودية والعبادة حتى أنزل الله عليه قوله:﴿
طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ....﴾1-2 طه.