تابع : مواقف أم سليم الأنصاريةالموقف الخامس:
أم سليم الأنصارية وشدة حرصها على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم: والبركة في اللغة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء . والمقصود به هنا " هو
طلب البركة من الزيادة في الخير والأجر وكل ما يحتاجه العبد في دينه
ودنياه بسبب ذات النبي صلى الله عليه وسلم بشرطين: أن تكون هذه البركة قد
ثبتت بسبب شرعي، وأن تكون الكيفية ثابتة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم "
.
وقد تقدم في الموقف الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها كثيرا
ويدخل بيتها وينام على فراشها في غيابها وكانت حريصة كل الحرص على التبرك
به صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه وعرقه وشعره كيف لا تكون كذلك؟ وقد
رأت بعينها معجزاته تظهر في طعامها مرات عديدة كما سيأتي.
فعن أنس رضي الله عنه: " أن أم سليم رضي الله عنها كانت تبسط للنبي صلى
الله عليه وسلم نطعا (بساط من الجلد) فيقيل عندها على ذلك النطع قال: فإذا
نام النبي صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم
جمعته في سك (أي من طيب مركب) وهو نائم (قال الراوي) فلما حضر أنس بن مالك
الوفاة أوصى إلى أن يجعل في حنوطه من ذلك السك فجعل في حنوطه .
وفي رواية عند مسلم قال أنس رضي الله عنه: دخل علينا النبي صلى الله عليه
وسلم فقال عندها (أي من القيلولة) فعرق وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت
العرق فيها فاستيقظ فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك
نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب ".
ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز التبرك بأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم
ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين وهم أحرص الناس على فعل
الخير ولما لم يفعل ذلك أحد منهم دل ذلك على أن التبرك خاص به صلى الله
عليه وسلم.
وكانت أم سليم تسعى لأن تشمل هذه البركة كل أفراد أسرتها لعلمها بما يرجع
عليها وعلى أسرتها من النفع الكثير من أثر ذلك التبرك ولذا كانت حريصة إذا
جاءها مولود أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يحنكه قال أنس
رضي الله عنه:" لما ولدت أم سليم قالت لي: يا أنس، انظر هذا الغلام فلا
يصيبن شيئا حتى تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فغدوت به
فإذا هو في حائطه، وعليه خميصة حريثية (نسبة إلى رجل اسمه حارث) وهو يسم
(من الوسم) الظهر الذي قدم عليه الفتح ".
فمن شدة حرصها على التبرك به صلى الله عليه وسلم تعجب النبي صلى الله عليه
وسلم حتى سألها عن ذلك فقالت: يا رسول الله نرجو بركته فقال النبي صلى
الله عليه وسلم مقرا لها على فعلها: "أصبت ".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف حرص أم سليم على ذلك ويقدر.لها ذلك
ويمكنها من التبرك به صلى الله عليه وسلم كلما أمكن، ولذا فقد ثبت عنه صلى
الله عليه وسلم أنه لما حلق شعره يوم النحر " أشار بيده إلى الجانب الأيمن
هكذا، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق وإلى الجانب الأيسر
فحلقه فأعطاه أم سليم ".
فهكذا ساوى النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم بالناس حين أعطاها وحدها نصف
شعر الرأس، وأعطى بقية الناس النصف الآخر، وما ذاك إلا تقدير منه صلى الله
عليه وسلم لأم سليم على اعتنائها الشديد بتتبع آثاره، وهو دليل على حبها
الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم وقربها منه صلى الله عليه وسلم.
الموقف السادس:
أم سليم والجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام ولن يكون لأهله عز في الدنيا
ولا رفعة في الآخرة إلا به، وقد شرعه الله لنشر الإسلام وإعلاء كلمته
وإقامة شرعه والقضاء على الفتنة قال تعالى: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله )) (سورة الأنفال – آية39). ولم يوجب الإسلام على
النساء الجهاد في سبيل الله أي المقاتلة، وقد سئل النبي صلى الله عليه
وسلم هل على النساء جهاد فقال: " عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة،
وفي رواية عند البخاري قالت عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل الأعمال
أفلا نجاهد قال: " لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور ".
وهو حكم متفق عليه لدى فقهاء الأمصار جميعا، وذلك لما يحتاج إليه الجهاد
من الشدة والغلظة والمصابرة، وهو غير متوفر في النساء لضعف خلقتهن ورقة
قلوبهن وقد اقتضت حكمة الله في التشريع وهو الحكيم العليم أن كلف كلا من
الصنفين ما يليق بحاله جسما وعقلا وروحا.
إذن فخروج النساء مع المجاهدين في سبيل الله لمعنى آخر غير القتال وهو
مساعدة الرجال فيما يحتاجون إليه من طبخ الطعام وسقاية المجاهدين ومداواة
الجرحى ومناولة السهام قال إبراهيم النخعي: " كان النساء يشهدن مع النبي
صلى الله عليه وسلم المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى" وبمثله قال
الزهري.
ولم تكن أم سليم تتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته إلا في
النادر، وكان زوجها أبو طلحة من أقوى الرماة بقي مع النبي صلى الله عليه
وسلم يوم أحد حين انهزم الناس يدافع عنه رضي الله عنه وأرضاه، وقد أدت أم
سليم رضي الله عنها في ذلك اليوم العصيب دورا عظيما قال أنس رضي الله عنه
" لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد
رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم رضي الله عنهما وإنهما لمشمرتان- أي قدم
سوقهن- تنقزان (وقال غيره: تنقلان) القرب على متونهما (أي ظهورهما) ثم
تفرغانه في أفواه القوم فتملآنها ثم تجيئان فتفرغان في أفواه القوم) .
الله كبر لقد ثبتت أم سليم وعائشة- رضي الله عنهما- حين انهزم معظم الرجال
تقومان فيه بالإسعافات الأولية للجرحى وتساعدان من بقي من الرجال في
المعركة.
قال ابن حجر- وهو من المحققين المعروفين بالاستقصاء-" ولم أرى في شيء من
ذلك التصريح بأنهن قاتلن وفي هذا رد على الذين يريدون أن يقحموا المرأة في
كل الميادين انطلاقا من قاعدة مساواة المرأة بالرجل بلا استثناء فإذا
عثروا على مثل هذه النصوص من خروج المرأة مع المجاهدين نادوا بملء أفواههم
قائلين: إن في هذا دليلا على أن المرأة تجاهد مع الرجال جنبا إلى جنب إلى
غير ذلك من المقولات المغرضة التي يرددها بعض من يسمون بالمفكرين
الإسلاميين الذين انهزموا نفسيا وثقافيا أمام وهج الحضارة الغربية، فلا
يهدأ لهم بال حتى يجعلوا المرأة المسلمة صورة للمرأة الغربية التي وصلت
إلى درجة أحط قدرا من المرأة في الجاهلية بكثير بل نزلت عن درجة البهائم
ومع ذلك تجد من ينتسب إلى الإسلام من ينظر إليها نظرة إعجاب، ولقد صدق
الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا
وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود
والنصارى؟ قال: فمن .
ولما كان يوم حنين- وكانت معركتها بعد فتح مكة- وكان عدد المسلمين أكثر
بكثير من عدوهم إذ كان العدو من قبيلة هوازن، وكان حال كل من الفريقين ما
ذكره الله في كتابه(( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا
وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين )) سورة التوبة آية
.
فانهزم الناس وبقي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عدد قليل من أصحابه لا
يتجاوز عددهم اثني عشر رجلا، فكانت أم سليم مع من بقي مع النبي صلى الله
عليه وسلم في هذا الموقف الحرج فعند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن أم
سليم رضي عنها اتخذت خنجرا يوم حنين فقالت اتخذته إن دنا مني أحد من
المشركين بقرت به بطنه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك... " بل إن
أم سليم لم تستسغ هذا الموقف، ولم تجد عذرا لبعض من انهزموا عن النبي صلى
الله عليه وسلم من مسلمة الفتح فقالت قولتها المشهورة (يا رسول الله اقتل
من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك فقال رسول الله: يا أم سليم إن الله قد
كفى وأحسن " .
وهكذا سطرت أم سليم في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم صفحات من نور،
وضربت في ذلك أروع الأمثلة للمرأة المسلمة في التضحية والإخلاص وستبقى هذه
المواقف لأم سليم رضي الله عنها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الموقف السابع:
أم سليم الأنصارية والوفاء بالعهد: الوفاء بالعهد سمة من سمات الإيمان بالله تبارك وتعالى بل هو من أهم
مقتضياته وإن الإخلال به يدخل المرء في شعب النفاق ويعرضه للطعن في عدالته
ومن أجل ذلك حذرنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم من الإخلال بالوفاء
بالعهد فقال:" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن
كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا
عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" .
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ على النساء بالبيعة
في ترك خصال من الكبائر كن يرتكبنها أو بعضهن في الجاهلية فقال جل ثناؤه:
((يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا
ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين
أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله
غفور رحيم )) سورة الممتحنة:آية12 .
وإنما نهاهن الله تعالى عن تلك الأمور لما فيها من مخالفة ما التزمن به من
الإسلام الذي يحرم على المرأة ا المسلمة ارتكاب أية واحدة منهن وإن اختلفت
جهتها وتعددت أسبابها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ على النساء بالبيعة في مناسبات
متعددة وكانت البيعة تقع أحيانا على أمور غير المذكورات في الآية لأهميتها
أيضا وكثرة وقوعها من النساء.
قالت أم عطية رضي الله عنها:" أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند
البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة- أم سليم، وأم العلاء،
وابنة أبي سيرة امرأة معاذ وامرأتين أو ابنة أبي سيرة وامرأة معاذ وامرأة
أخرى .
قال ابن حجر نقلا عن القاضي عياض: " معنى الحديث لم يف ممن بايع النبي صلى
الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه إلا المذكورات لا أنه
لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة ))
ومهما يكن الأمر فإن أم سليم رضي الله عنها جاءت في الصدارة فيمن وفى من
النساء بما أخذ عليهن في تلك البيعة من عدم النياحة على الميت بل كيف يعقل
أن تنوح أم سليم على ميت، وهي التي حينما مات ابنها جهزته ووضعته في جانب
من البيت ثم تزينت لزوجها حتى واقعها ولم يظهر منها أي جزع فضلا عن البكاء
كما تقدم في الموقف الثالث؟.
وهكذا صارت أم سليم نموذجا رائعا ومثلا حيا لكل المؤمنين والمؤمنات في هذا الموقف وغيره من المواقف السابقة.